[قصتنا الاولى بعنوان المتعة .. والحزن !
وقف الطفل الصغير أمام فاترينة محل ملابس الرجال يتأمل باهتمام شديد ما يراه خلف الزجاج .لم يكن يشاهد البدل الجديدة الأنيقة المعروضة فيها و لم يكن يحلم بأن يكبر و ستطيع أن يشتري واحدة من هذه البدل .. بل و لم يكن ينظر أساسا إلى هذه البدل الأنيقة إنما كان يرقب بشغف و حنين (( الموديلات )) الوردية اللون المصنوعة بدقة و جمال من البلاستيك على هيئة الرجال و هي ترتدي تلك البدل ! .. يتأمل ملامح الوجوه الوسيمة و لون شعر الرأس و لون العيون و ما توحي به من انطباعات عن شخصية كل موديل .
فهذا (( الرجل )) وسيم ، لكن ملامحه توحي بالقسوة ، و هذا (( الرجل )) أقل وسامة لكن ملامح وجهه مريحة و هذا الرجل وسيم و شديد الشبه بوالد زميله في الفصل ، و كل هؤلاء الرجال فيهم قة و وسامة و وجوههم باسمة .. لكنه لا يجد بينهم ضالته .
- يتبع -
--------------------------------------------------------------------------------
لم تكن المرة الأولى التي يمارس فيها هواية تأمل وجوه الموديلات في نوافذ المحال التجارية الكبرى .. فهو يتأملها دائما كلما خرج مع أمه لتشتري بعض حاجاتها من الأسواق ، فتجذبه من يده بحزم كلما أطال الوقوف أمام أحدها ، لكنها المرة الأولى التي يمارسها فيها منفردا و بحرية بعيدا عن رقابة أمه و جذبها المستمر له من أمام المحال .. فلقد تأخرت اليوم في الحضور لاصطحابه من مدرسة الحضانة و وجد حارس الباب منشغلا بالحديث مع بعض آباء الأطفال الذين يحييهم باحترام كلما جاءوا لاصطحاب أطفالهم فتسلل من باب المدرسة و راح يتمشى في الشوارع وحيدا ينتقل من محل إلى آخر .. و من رصيف إلى رصيف باحثا عن فاترينة المحل القريب التي عثر فيها منذ أيام خلال مصاحبته لأمه عن (( الرجل )) الذي يريده و يتمناه لنفسه ! إنه طويل وسيم باسم يبدو حنونا و محترما في نفس الوقت .. و سوف ينهض حارس المدرسة تحية له حين يحضر لاصطحابه منها ظهر كل يوم كما فعل مع الآباء المحترمين و بمصادفة نادرة وجد نفسه أمامه ينظر إليه باسما و مادا ذراعيه يستعرض البدلة الأنيقة التي يرتديها كأنما يسأله هل تعجبك ؟ فتسمر أمامه و راح يرقبه في صمت و خياله ينشط .. إنه يريده لنفسه أبا يحبه و يخافه و يفتخر به أمام زملائه بالمدرسة و أطفال جيرانه .. فكلهم لهم آباء و هو وحده الذي لا أب له ..
مات في الحرب كما قالت له أمه و لم تبق منه سوى صورة صغيرة معلقة في حجرة الصالون يقف فيها إلى جوار أمه بملابس الزفاف .. لكن الأب الذي في الصورة لا يتكلم و لا يتحرك و لا يداعبه و لايخرج معه في نزهة .. و لابد من أب جديد .. فبدأ يبحث عنه في وجوه جيرانه لكنهم مشغولون جميعا لهم زوجات و أبناء .. فبدا يبحث عنه في نوافذ المحال التجارية ! إن هذه المحال تجيد اختيار الرجال الذين يقفون في شرفاتها و سوف يجد ضالته فيها ..
و بدات رحلته للبحث عنه كلما اصطحبته أمه لشراء شئ من الأسواق .. و ضايقه كثيرا أن أمه لا تفضل الوقوف أمام محال ملابس الرجال و تصحبه غالبا إلى محال ملابس الأطفال و محال الملابس النسائية .. أمه جميلة و صغيرة و حزينة و ترتدي السواد دائما و تلاعبه أحيانا و تبكي أمامه في أحيان أخرى و تحتضنه في الليل و تنام .
و كلما سألها لماذا لا يكون له أب آخر بدلا من الأب الذي في الصورة تبتسم ابتسامة حزينة و تطالبه بالحديث في موضوع آخر
و ها قد وجد فرصته ليقنعها ( بشراء ) أب من هذا المحل .. فدخل مرتبكا ليسأل البائع عن ثمنه !
و تعجب البائع من أن يفكر طفل في شراء بدلة كبيرة للرجل أو أن يسأل عن ثمنها فداعبه و طالبه بأن يعود مع أبيه لشرائها .. و ذهل الرجل قليلا حين قال له الطفل أنه لا أب له و أنه لا يريد شراء البدلة وحدها لكن شراء (( الرجل )) بملابسه ليكون له أبا و يريد فقط أن يعرف الثمن ليقنع أمه بذلك ! و ربت البائع على خده و أفهمه برقة أن المعروض في النافذة ليس رجلا و إنما نموذج لرجل و أنه ليس للبيع .. لهذا فهو لا يصلح لأن يكون أبا لأحد .. و عليه أن يبحث عن ضالته بين الرجال الذين يتكلمون و يمشون و يضحكون ، فخرج الطفل حزينا و البائع يتابعه بعطف و تأمل !
و سار الطفل في الشارع يتأمل الرجال الذين يعبرون الطريق و يرفع رأسه إلى أعلى يتأمل الوجوه و يقف أمام المطاعم يرقب من وراء الزجاج الرجال الذين يتناولون الطعام .. و يتجاهل الرجال الذين يسيرون بصحبة سيدات و أطفال و يركز النظر على الرجال الذين يسيرون أو يجلسون وحدهم . .ثم اصطدم بساق رجل ......
ثم اصطدم بساق رجل .. فانحنى عليه الرجل معتذرا و مبتسما .. فتعلقت نظرات الطفل به كأنه نجدة هبطت عليه من السماء .. إنه قريب الشبه من الرجل الآخر الواقف في نافذة المحل .. ووسيم و محترم مثله .. و أكثر من ذلك يسير وحيدا في الشارع .. و قد مضى الرجل في طريقه فوجد الطفل نفسه بتلقائية يسير خلفه . كان الرجل يحمل في يده حقيبة أوراق صغيرة .. و لا يبدو في عجلة من أمره فراح يمشي على مهل .. و يتوقف أحيانا أمام بعض المحال التجارية و من خلفه يسير الطفل كلما سار و يتوقف كلما توقف و لا يرفع عينيه عنه ! ثم دخل الرجل مقهى صغيرا فتردد الطفل في الدخول وراءه فوقف ينتظره أمام بابه .. و لم يختف الرجل طويلا عن أنظاره فلقد اختار مائدة مطلة على الشارع و جلس إليها و فتح حقيبته و أخرج منها صحيفة و راح يحتسي القهوة و
فقال الطفل لنفسه إن هذا هو بالضبط الأب الذي يريده .. أب يقرأالصحيفة و يشرب القهوة و يبدو محترما من الجميع .. و لم يشعر بالوقت الذي مضى و هو واقف أمام المقهى .. لكنه تنبه فجأة إلى الرجل و هو ينظر إليه بدهشة .. و يبدو كأنما تذّكره ! إنه يشير إليه أن يدخل المقهى .. فتردد قليلا ثم دخل .. و اتجه إليه و استقبله الرجل بعطف و سأله : هل تريد شيئا أيها الصغير ؟ فلم يجد جوابا . و شجعه الرجل قائلا : هل تريد أن تاكل أو تشرب شيئا ؟ فهز رأسه نافيا فعاد يسأله هل تريد نقودا ؟ فهز رأسه مرة أخرى بشدة فتنبه الرجل إلى شيئ غاب عنه فقال : يا إلهي أنت صغير جدا و ربما لم تبلغ السادسة .. ترى هل فشلت في العودة إلى بيتك و تريدني أن أصطحبك إليه ؟ فاشار الطفل برأسه مجيبا . فسأله : أين تسكن ؟ فلم يستطع الطفل أن يتذكر اسم الحي أو الشارع .. فدفع الرجل ثمن القهوة ثم نهض و أمسك بيده و اصطحبه خارجا و هو يقول له : دعنا نبدأ من البداية .أرني كيف بدأت رحلتك حتى وصلت إلى هنا و سار الطفل معه .. و في الطريق سأله في خجل : هل عندك سيدة و طفل ! فضحك الرجل و قال له : تقصد هل متزوج ؟ لا لست متزوجا أيها الصديق الصغير . فتردد الصبي قليلا ثم قال له ببراءة : و هل تريد سيدة و طفلا ؟
فاستولت الدهشة على الرجل تماما و راح يسأله عن سبب تفكيره في ذلك و الطفل يجيب في سذاجة حتى عرف القصة كاملة و لمعت عيناه بالتأثر و التفكير .. ثم تمالك نفسه و قال له : إن علينا أن نعرف أولا أين تقيم و نعيدك إلى أمك .. إنها تبحث عنك الآن في كل مكان و شديدة القلق عليك .. ثم لنبحث الأمر بعد ذلك معا .
و اعتبر الطفل ذلك موافقة فانفرجت أساريره .. و تملكته فرحة طاغية و أمسك بيد أبيه الجديد باعتزاز و تمنى لو صادف في الطريق بعض زملائه في المدرسة الذين يتحدثون دائما عن آبائهم ليقدمه إليهم .
و مضى الاثنان ينتقلان من شارع إلى شارع و الطفل يضحك و يسأل و يتكلم و الأب يجيب على أسئلة "ابنه " باهتمام .. و يتوقف من حين لآخر ليسأل شرطي المرور أو أحد المارة عن موقع المدرسة التي قرأ اسمها منسوجا على قميص الطفلو أخيرا اقترب الاثنان من مبنى المدرسة و عبرا البوابة الرئيسية فما دخلاها حتى صرخت الأم من الفرح حين رأت طفلها و جرت إليه باكية .. و جرى الطفل إليها سعيدا و رفعته عن الأرض و غمرته بقبلاتها و دموعها .. ثم تنبهت للرجل الذي كان يرقب المشهد متأثرا ، فمدت إليه يدها و شكرته بحرارة .. و أجابها الرجل بكلمات قصيرة ، ثم استأذنها و استدار لينصرف .. فصاح الطفل يطالبه بالبقاء و أحس الرجل بالحرج قليلا ثم وعده بأن يزوره في البيت في وقت آخر و أشار إليه بيده و واصل طريقه .. فطالب الطفل أمه ألا تدعه يرحل لأنه يريد أن يذهب معهما إلى البيت و أن " يبقى " معهما دائما .. و قد اتفق معه على ذلك و وافق الرجل .. لقد عثر عليه بعد أن تعب كثيرا من البحث عنه في الشوارع لأنه الشخص الذي يريده أبا له و أدركت الأم الموقف و سألته عما قاله له و استمعت إليه ساهمة و إشفاقها على طفلها الوحيد يتزايد كلما ازداد حماسا في الحديث عن الرجل .. ثم قالت له و هي تجذبه إلى طريق العودة للبيت : سوف يعود قريبا و سوف يقيم معهما .. و سوف يتغير نظام حياتهما و تصحبه هي إلى المدرسة في الصباح و يعيده هو من المدرسة إلى البيت عند الظهر .. و سوف يلتقون معا كل يوم على مائدة الغداء ..و يشاهدون التليفزيون معا في المساء و يخرجون يوم الإجازة إلى حديقة الحيوان .. و إلى السينما كما يريد و سوف يكون له أب وسيم يفتخر به أمام أصدقائه في الزيارات العائلية و يقبّله كل مساء قبل أن ينام كما يفعل الآباء مع أبنائهم الصغار و اختتمت كلامها قائلة : سيحدث كل ذلك يا صغيري صدقني ألم يقل أمامك أنه سيزورنا في وقت آخر !
ثم مسحت دموعها بظهر يدها .. و مضت في الطريق إلى بيتها ممسكة بيد طفلها الصغير الذي يتقافز سعيدا و مبتهجا و هو يعد في خياله ما سيقوله لزملائه في المدرسة عن أبيه الجديد .
النهاية
....اسف على الاطالة......